عن أميرِ المؤمنينَ أبي حفصٍ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:
{إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ}.
رواه إماما المحدِّثينَ:أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةِ ابنِ بَرْدِزْبَه البُخاريُّ.وأبو الحُسَيْنِ مسلِمُ بنُ الحجَّاجِ بنِ مُسلمٍ القُشيْريُّ النَّيْسَابوريُّ في صحيحيهما اللَّذين هما أصحُّ الكتُبِ الْمُصَنَّفةِ
شرح وفوائد الحديث
دل الحديث على أن النية معيار لتصحيح الأعمال، فحيث صلحت النية صلح العمل، وحيث فسدت فسد العمل ،، وإذا وجد العمل وقارنته النية فله ثلاثة أحوال:
(الأول) : أن يفعل ذلك خوفاً من الله تعالى وهذه عبادة العبيد.
(الثاني): أن يفعل ذلك لطلب الجنة والثواب وهذه عبادة التجار.
(الثالث): أن يفعل ذلك حياء من الله تعالى وتأدية لحق العبودية وتأدية للشكر، ويرى نفسه مع ذلك مقصراً، ويكون مع ذلك قلبه خائفاً لأنه لا يدري هل قبل عمله مع ذلك أم لا، وهذه عبادة الأحرار، وإليها أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت له عائشة رضي الله عنها حين قام من الليل حتى تورمت قدماه: يا رسول الله !
أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً ؟). فإن قيل: هل الأفضل العبادة مع الخوف أو مع الرجاء ؟. قيل: قال الغزالي رحمه الله تعالى: العبادة مع الرجاء أفضل، لأن الرجاء يورث المحبة، والخوف يورث القنوط.
وهذه الأقسام الثلاثة في حق المخلصين، واعلم أن الإخلاص قد يعرض له آفة العجب، فمن أعجب بعمله حبط عمله، وكذلك من استكبر حبط عمله.
الحال الثاني: أن يفعل ذلك لطلب الدنيا والآخرة جميعها، فذهب بعض أهل العلم إلى أن عمله مردود واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الرباني: ((يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه)).
وإلى هذا ذهب الحارث المحاسبي في كتاب ((الرعاية)) فقال: الإخلاص أن تريده بطاعته ولا تريد سواه. والرياء نوعان: أحدهما: لا يريد بطاعته إلا الناس والثاني: أن يريد الناس ورب الناس، وكلاهما محبط للعمل، ونقل هذا القول الحافظ أبو نُعيم في ((الحلية))عن بعض السلف، واستدل بعضهم على ذلك أيضاً بقوله تعالى: ( الجَّبار الُمتَكِّبرُ سُْبحَان الله عَمّا يُشْركوْنَ) (الحشر: 23)، فكما أنه تكبر عن الزوجة والولد والشريك، تكبر أن يقبل عملاً أشرك فيه غيره، فهو تعالى أكبر، وكبير، ومتكبر.
وقال السمر قندي رحمه الله تعالى: ما فعل لله قُِبلَ وما فعل من أجل الناس رُدَّ. ومثال ذلك من صلى الظهر مثلاً وقصد أداء ما فرض الله تعالى عليه ولكنه طول أركانه وقراءتها وحسَّن هيئتها من أجل الناس، فأصل الصلاة مقبول، وأما طوله وحسنه من أجل الناس فغير مقبول لأنه قصد به الناس.
وسئل الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: عمن صلى فطول صلاته من أجل الناس ؟ فقال: أرجو أن لا يحبط عمله هذا كله إذا حصل التشريك في صفة العمل، فإن حصل في أصل العمل بأن صلى الفريضة من أجل الله تعالى والناس، فلا تقبل صلاته لأجل التشريك في أصل العمل، وكما أن الرياء في العمل يكون في ترك العمل. قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك، والاخلاص ان يعافيك الله منهما.
ومعنى كلامه رحمه الله تعالى أن من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراها الناس، فهو مُراءٍ لأنه ترك العمل لأجل الناس، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب إلا أن تكون فريضة، أو زكاة واجبة، أو يكون عالماً يقتدى به، فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل، وكما أن الرياء محبط للعمل كذلك التسميع، وهو أن يعمل لله في الخلوة ثم يحدث الناس بما عمل، قال صلى الله عليه وسلم: ((من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به)).
قال العلماء: فإن كان عالماً يقتدى به وذكر ذلك تنشيطاً للسامعين ليعملوا به فلا بأس. قال المرزباني، رحمه الله تعالى عليه: يحتاج المصلى إلى اربع خصال حتى ترفع صلاته: حضور القلب، وشهود العقل، وخضوع الأركان، وخشوع الجوارح، فمن صلَّى بلا حضور قلب فهو مصلٍ لاهٍ، ومن صلى بلا شهود عقل فهو مصل ساهٍ، ومن صلى بلا خضوع الجوارح فهو مصل خاطىء، ومن صلى بهذه الأركان فهو مصلٍ وافٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) أراد بها أعمال الطاعات دون أعمال المباحات، قال الحارث المحاسبي: الإخلاص لا يدخل في مباح، لأنه لا يشتمل على قربة ولا يؤدي إلى قربة، كرفع البنيان لا لغرض الرعونة، أما إذا كان لغرض كالمساجد والقناطر والأربطة فيكون مستحباً. قال: ولا إخلاص في محرم ولا مكروه، كمن ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، ويزعم أنه ينظر إليه ليتفكر في صنع الله تعالى، كالنظر إلى الأمرد، وهذا لا إخلاص فيه بل لا قربة البتة، قال: فالصدق في وصف العبد في استواء السر والعلانية والظاهر والباطن، والصدق يتحقق بتحقق جميع المقامات والأحوال حتى إن الإخلاص يفتقر إلى الصدق، والصدق لا يفتقر إلى شيء. لأن حقيقة الإخلاص هو إرادة الله تعالى بالطاعة، فقد يريد الله بالصلاة ولكنه غافل عن حضور القلب فيها، والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة مع حضور القلب إليه، فكل صادق مخلص، وليس كل مخلص صادقاً، وهو معنى الاتصال والانفصال، لأنه انفصل عن غير الله واتصل بالحضور بالله، وهو معنى التخلي عما سوى الله والتحلي بالحضور بين يدي الله سبحانه وتعالى.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال)) يحتمل: إنما صحة الأعمال أو تصحيح الأعمال، أو قبول الأعمال، أو كمال الأعمال، وبهذا أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ويستثنى من الأعمال ما كان قبيل التروك كإزالة النجاسة، ورد الغصوب والعواري، وإيصال الهدية وغير ذلك، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة، ولكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب، ومن ذلك ما إذا أطعم دابته، إن قصد بإطعامها امتثال أمر الله تعالى فإنه يثاب، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية فلا ثواب، ذكره القرافي، ويستثنى من ذلك فرس المجاهد، إذا ربطها في سبيل الله فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها أثيب على ذلك كما في صحيح البخاري، وكذلك الزوجة وكذلك إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند النوم إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب وإن قصد أمراً آخر فلا.
واعلم أن النية لغة: القصد، يقال نواك الله بخير: أي قصدك به. والنية شرعاً: قصد الشيء مقترناً بفعله، فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم، وشرعت النية لتمييز العادة من العبادة أو لتمييز رتب العبادة بعضها عن بعض، مثال الأول: الجلوس في المسجد قد يقصد للاستراحة في العادة، وقد يقصد للعبادة بنية الاعتكاف، فالمميز بين العبادة والعادة هو النية، وكذلك الغسل: يقصد به تنظيف البدن في العادة، وقد يقصد به العبادة فالمميز هو النية وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل رياء ويقاتل حمية ويقاتل شجاعة، أي ذلك في سبيل الله تعالى ؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى)) ومثال الثاني وهو المميز رتب العبادة، كمن صلى أربع ركعات قد يقصد إيقاعها عن صلاة الظهر وقد يقصد إيقاعها عن السنن فالمميز هو النية، وكذلك العتق قد يقصد به الكفارة وقد يقصد به غيرها كالنذر ونحوه، فالمميز هو النية..
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما لكل امرىء ما نوى)) دليل على أنه لا تجوز النيابة في العبادات، ولا التوكيل من نفس النية، وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح، والتفرقة مع القدرة على النية. وفي الحج: لا يجوز ذلك مع القدرة ودفع الدين، أما اذا كان على جهة واحدة لم يحتج إلى نية، وإن كان على جهتين كمن عليه ألفان بأحدهما رهن فإدى ألفاً قال جعلته عن ألف الرهن، صدق، فإن لم ينو شئياً حالة الدفع، ثم نوى بعد ذلك، وجعله عما شاء وليس لنا نية تتأخر عن العمل وتصح إلا هنا.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
أصل المهاجرة المجافاة والترك، فاسم الهجرة يقع على رموز:
الأولى: هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة حين آذى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم،ففروا منه إلى النجاشي، وكانت هذه بعد البعثة بخمس سنين، قاله البيهقي .
الهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة وكانت هذه بعد البعثة بثلاث عشرة سنة، وكان يجب على كل مسلم بمكة أن يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأطلق جماعة أن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة،وهذا ليس على إطلاقه فإنه لا خصوصية للمدينة، وإنما الواجب الهجرة إلى رسول الله صلى عليه وسلم قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض هرباً وطلباً، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام:
(الأول): الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وهي باقية إلى يوم القيامة،و التي انقطعت بالفتح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح)). هي القصد إلى رسول الله صلى عليه وسلم حيث كان.
(الثاني): الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُ فيها السلف.
(الثالث) : الخروج من أرض يغلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم.
(الرابع) : الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله تعالى أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه في مكان فقد أذن الله تعالى له في الخروج عنه، والفرار بنفسه يخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام حيث خاف من قومه فقال: {إٍنًّي مُهَاجِرُ إِلى رَبًّي} [العنكبوت:26]. وقال تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاَ يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
(الخامس): الخروج خوف المرض في البلاد الوخمة، إلى الأرض النزهة، وقد أذن صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج.
(السادس) الخروج خوفاً من الأذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه.
وأما قسم الطلب ، فإنه ينقسم إلى عشرة: طلب دين وطلب دنيا، وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع:
(الأول) سفر العبرة قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيْروُا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلهِم} [الروم:9]. وقد طاف ذو القرنين في الدنيا ليرى عجائبها.
(الثاني) : سفر الحج.
(الثالث): سفر الجهاد.
(الرابع) : سفر العبرة المعاش.
(الخامس) : سفر التجاره والكسب الزائد على القوت، وهو جائز لقوله تعالى: { لَيْسَ عَلْيكُمْ جُنَاحُ أَنْ تَبْتغُوا فَضْلاً مِنْ رَبَّكم} [البقرة: 198].
(السادس) : طلب العلم.
(السابع) :قصد البقاع الشريفة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)).
(الثامن) : قصد الثغور للرباط بها.
(التاسع): زيارة الإخوان في الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: ((زار رجل أخاً له في قرية، فأرسل الله ملكاً على مدرجته. فقال: أين تريد ؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تؤديها قال: لا، إلا أنني أحبه في الله تعالى قال: فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته)). رواه مسلم. وغيره.
الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلموا الشرائع ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم.
الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه.
الخامسة : الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فلا يحل للمسلم الإقامة بدار الكفر، قال الماوردي: فإن صار له بها أهل وعشيرة، وأمكنة إظهار دينه،لم يجز له أن يهاجر، لأن المكان الذي هو فيه قدر دار إسلام.
السادسة: هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة، بغير سبب شرعي، وهي مكروهة في الثلاثة، وفيما زاد حرام إلا لضرورة.
السابعة: هجرة الزوج الزوجة إذا تحقق نشوزها قال تعالى {واهْجُرُوهُنَّ فِي اَلمَضَاجِعِ} [ النساء :34]. ومن ذلك هجرة أهل المعاصي في المكان،و الكلام،و جواب السلام وابتداؤه.
الثامنة: هجرة ما نهى الله عنه، وهي أعم الهجر..
قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله)): أي نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً.
((ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها.. الخ)) نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فسمي مهاجر أم قيس. فإن قيل النكاح من مطلوبات الشرع فْلمَ كان من مطلوبات الدنيا؟ قيل في الجواب: إنه لم يخرج في الظاهر لها، وإنما خرج في الظاهر للهجرة، فلما أبطن خلاف ما أظهر استحق العتاب واللوم،وقيس بذلك من خرج في الصورة الظاهرة لطلب الحج وقصد التجارة وكذلك الخروج لطلب العلم إذا قصد به حصول رياسة أو ولاية.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((فهجرته إلى ما هاجر إليه)) يقتضي أنه لا ثواب لمن قصد بالحج التجارة والزيارة، وينبغي حمل الحديث على ما إذا كان المحرك الباعث له على الحج إنما هو التجارة، فإن كان الباعث له الحج فله الثواب، والتجارة تبع له إلا أنه ناقص الأجر عمن أخرج نفسه للحج، وإن كان الباعث له كليهما فيحتمل حصول الثواب لأن هجرته لم تتمخص للدنيا، ويحتمل خلافه لأنه قد خلط عمل الآخرة بعمل الدنيا، لكن الحديث رتب فيه الحكم على القصد المجرد، فأما من قصدهما لم يصدق عليه أنه قصد الدنيا فقط، والله سبحانه وتعالى أعلم...
تعليقات
إرسال تعليق